خلق العدل وعلاقته بالحرب
سيف النصر علي عيسى
معناه في اللغة : الإنصاف ، وهو ما قام في النفوس أنه مستقيم ، وهو ضد الظلم
والعادل : المقسط
وفي الشرع : هو وضع الشيء في موضعه الصحيح
وهو الحكم بالحق . قال تعالى : {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى}[صّ: من الآية26]
قال الراغب الأصفهاني :
العَدْلُ ضَرْبَانِ :
1 ـ مُطْلَقٌ يَقْتَضِي العَقْلُ حُسْنَهُ ، ولا يَكونُ في شَيْءٍ مِنَ الأَزْمِنَةِ مَنْسُوخاً ، ولا يُوصَفُ بالاعْتِداءِ بِوَجْهٍ
نَحْوُ : الإِحْسانِ إِلى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ ، وكَفِّ الأَذِيَّةِ عَمَّن كَفَّ أَذاهُ عَنْكَ .
2 ـ وعَدْلٌ يُعْرَفُ كَوْنُهُ عَدْلاً بالشَّرْعِ ، ويُمْكِنُ نَسْخُهُ في بعضِ الأَزْمِنَةِ ، كالقِصَاصِ وأُرُوشِ الجِناياتِ وأَخْذِ مالِ المُرْتَدِّ ولذلكَ قالَ تَعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاَعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وقالَ تَعالَى : { وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها } ، فَسَمَّى ذلكَ اعْتِداءً وسَيِّئَةً ، وهذا النَّحْوُ هو المَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإِحْسانِ )
فَإِنَّ العَدْلَ : هو المُساوَاةُ في المُكافَأَةِ إِنْ خَيْراً فَخَيْرٌ وإِنْ شَرّاً فَشَرٌّ
والإِحْسَانُ : أنْ يُقابِلَ الخَيْرَ بِأَكْثَرَ منه والشَّرَّ بِأَقَلَّ منه
وقد أمر الله بالعدل فقال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] وفي أمر الفئتين المقتتلتين من المؤمنين قال الله : {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]
وأمر بالعدل مع كل الناس فقال سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8]
وقال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] ولذلك جاءت أحكام الشريعة كلها عادلة ، وقامت على العدل المطلق . فكانت خير شريعة عرفها البشر على وجه الأرض .
والعدل يقيم الدول ويكون النصر حليفها ، كما أن الظلم يهدم الدول ويحل عليها عار الهزيمة والفناء .
ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم أول من يظلهم الله يوم القيامة في ظله هو الحاكم العادل فقال صلى الله عليه وسلم : (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ إِمَامٌ عَادِلٌ .... الحديث)
وروى أحمد (21419) عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلا أَتَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَغْلُولا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُطْلِقُهُ إِلا الْعَدْلُ ... الحديث)
ـ موقف من مواقف العدل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرب
روى أبو نعيم في (معرفة الصحابة ) (3133 ) عن حبان بن واسع ، عن أشياخ من قومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر ، وفي يده قدح يعدل به القوم ، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار قال : وهو مستنتل من الصف ، فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقدح في بطنه ، وقال : « استو يا سواد » فقال : يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالعدل ، فأقدني قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « استقد » قال : يا رسول الله إنك طعنتني وليس علي قميص قال : فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه ، وقال : « استقد » قال : فاعتنقه ، وقبل بطنه ، وقال : « ما حملك على هذا يا سواد ؟ » قال : يا رسول الله ، حضرني ما ترى ، ولم آمن القتل ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم له بخير ، وقاله
فهذه أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وفي أحلك المواقف عند تسوية الصفوف للقتال ، وفعل صدر منه صلى الله عليه وسلم لا يقصد به أذى ، ولم يؤلم سواد ، ورغم ذلك من حقه أن يقتص حتى ولو كان الفاعل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهل يوجد في تاريخ البشر مثل هذا ؟!!!
موقف آخر من مواقف عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يهودي ضد صاحبه :
- عَنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ : أَنَّهُ كَانَ لِيَهُودِيٍّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنَّ لِي عَلَى هَذَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَيْهَا
فَقَالَ : أَعْطِهِ حَقَّهُ ، قَالَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا ، قَالَ : أَعْطِهِ حَقَّهُ ، قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنَّكَ تَبْعَثُنَا إِلَى خَيْبَرَ فَأَرْجُو أَنْ تُغْنِمَنَا شَيْئًا فَأَرْجِعُ فَأَقْضِيهِ قَالَ : أَعْطِهِ حَقَّهُ ، قَالَ : وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ ثَلاثًا لَمْ يُرَاجَعْ . فَخَرَجَ بِهِ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ إِلَى السُّوقِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِصَابَةٌ وَهُوَ مُتَّزِرٌ بِبُرْدٍ ، فَنَزَعَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ فَاتَّزَرَ بِهَا وَنَزَعَ الْبُرْدَةَ فَقَالَ : اشْتَرِ مِنِّي هَذِهِ الْبُرْدَةَ فَبَاعَهَا مِنْهُ بِأَرْبَعَةِ الدَّرَاهِمِ فَمَرَّتْ عَجُوزٌ فَقَالَتْ : مَا لَكَ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟
فَأَخْبَرَهَا ، فَقَالَتْ : هَا دُونَكَ هَذَا بِبُرْدٍ عَلَيْهَا طَرَحَتْهُ عَلَيْهِ.
فها هو صلى الله عليه وسلم ينصف يهودي ولو كان الخصم أحد أصحابه