سيف النصر علي عيسى مدير عام
نقاط : 446 تاريخ التسجيل : 24/12/2009
| موضوع: أهمية العقيدة وأثر الإعلام الغربي عليها السبت يناير 22, 2011 7:07 am | |
| أهمية العقيدة وأثر الإعلام الغربي عليها
د. جعفر شيخ إدريس
عقيدة التوحيد هي جوهر الدين وأساسه، فالتأثير فيها سلبا أو إيجابا هو أخطر التأثيرات على دين المسلم. ولما كان الإعلام من أقوي المؤثرات إن لم يكن أقواها في عصرنا هذا على حياة الناس الفكرية والسلوكية، كان البحث في تأثير الإعلام الغربي على عقيدة المسلم المتعرض له، من أهم ما ينبغي أن ينشغل يه الباحثون. لذلك سرني أن يكون النظر فيه ضمن اهتمامات هذه المناسبة المباركة، وإن كنت أعلم أنني لن أستطيع أن أوفيه حقه. ولما كان البحث في هذا التأثير لا يتم إلا ببيان المكانة العظيمة التي تحتلها العقيدة في الهدي الإسلامي، وبالتالي في حياة المسلم الملتزم به، فقد كان من التوفيق أيضا ان يطلب من الناظر فيه البدء ببيان هذه المكانة العظيمة.
أهمية العقيدة أقول إذن مستعينا بالله ومبتدئا حديثي هذا بسؤال:لماذا جعلت العقيدة أساس الدين وركنه الأول؟ ربما تبادر إلى أذهان بعض الناس ولا سيما أناس في عصرنا هذا الذي يرفع من قدر الظاهر المحسوس، أن الجدير بهذه المكانة هو الأعمال الصالحة الظاهرة كالإنفاق وحسن معاملة الناس والجهاد لرفع راية الدين؟ فلماذا جعلت لشيء باطني غير عملي؟ مع أننا إنما نقوم الناس بحركات جوارحهم لا بحركات قلوبهم وما يكمن في ضمائرهم؟
الجواب الموجز هو أن ما في الباطن مقدم على ما في الظاهر لأنه هو أساسه ومصدره. فما من عمل ظاهري حسن كان أم سيئ إلا وله أساس باطني. هذه حقيقة يعلمها كل إنسان من نفسه، ولو كان يعلم ما في نفوس الآخرين كما يعلم نفسه لكان تقويمه لأعمالهم بأساسها الباطني هذا. تصور لو أن إنسانا أهدي إليك هدية قيمة، لكنك شاهدته في قلبه يقول لك: "ما أحقرك؛ والله إنك لا تستحقها ولا أقل منها، ولولا أني أطمع منك في أكثر منها لما أعطيتك إياها."
هذا علم غيبه الله عنا فلم يبق لنا إلا الحكم بالظاهر والاستدلال به أحيانا على ما في الباطن. أما الخالق سبحانه فإنه عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولهذا كان تقويمه سبحانه للناس بهذا الباطن الذي هو أساس الظاهر
إن أصل تكريم الباطن هو أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكون الإنسان من عنصرين من مخلوقاته، عنصر الطين وعنصر الروح، فجعل المكون من الطين هو صورته المرئية، وجعل العنصر الروحي حقيقته الخفية. لكنه سبحانه جعل بين ظاهر الإنسان وباطنه صلة ونسبا. فالروح إنما تسكن في الجسد، وإنما تبدو تصرفاتها وتأثيراتها عليه وبوساطته؛ وربما كان هذا هو السر في أن بعض أعمال الروح تنسب إلى أعضاء جسدية لصلتها الخاصة بها. إن القلب الجسدي ليس هو الذي يعقل كما يحدثنا شيخ الإسلام بن تيمية، وعليه فإن السلامة والمرض المنسوبتان إليه في الكتاب والسنة ليستا أحوالا جسدية كما هو المشاهد، وإنما هي أحوال روحية نسبت إلي ما يلائمها من الأعضاء الجسدية.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يجعل الإنسان إنسانا بجوهره الروحي الداخلي الخفي لا بشكله الجسدي الخارجي. فالروح هي محل الإدراك والإيمان والتصورات والإرادات والمشاعر. والإنسان إنما يتحرك ويتصرف بما يعتقد، حقا كان أو باطلا، وبما يتصور واقعا كان أم وهما. وإذا كان الأمر كذلك كان ما يظهر لنا من صلاح الإنسان أو فساده السلوكي راجعا بالضرورة إلي صلاح معتقداته وتصوراته أو فسادها. وإذن فالجانب الذي نسميه عمليا في حياة الإنسان والذي قد نخطئ فنظنه أهم جانبيه، إنما هو أثر وناتج عن جانبه الداخلي الذي قد نجنح إلي التقليل من أهميته فنصفه بالنظري أو المثالي. كلا. إنه لهو الجانب الفعال الذي يحدد مصير الإنسان والذي ينبغي لذلك أن تكون العناية به أكبر،
وكما جعل الله تعالى غذاء الجسد وبقاْءه في بعض المطاعم والمشارب، وجعل مرضه أو موته في غيرها، فقد جعل غذاء الروح وبقاءها في بعض العلوم وجعل مرضها وموتها في حرمانها منها، وجعل حياته الروحية هي حياته الحقيقية، وموتها هو موته الحقيقي.
والحقائق التي يمكن للإنسان أن يعلمها كثيرة، والعلوم النافعة كثيرة، لكن أشرف العلوم وأجلها نفعا هو العلم بالله ربا لا رب سواه وإلها لا معبود بحق إلا إياه. هذا هو العلم الذي لا تحيا القلوب إلا به، ولا يكون الإنسان مخلوقا كريما إلا بمعرفته، والاعتراف به.
نعم. الاعتراف، لأن هذا العلم لا يؤتي ثماره إلا إذا اختار من علمه أن يعترف بما علم ويؤمن به. فالروح لا تحيا بالمعرفة وحدها بل لا بد أن تنضم إليها الإرادة، إرادة الإيمان.
وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك، فيؤمنوا به، فتخبت له قلوبهم.
فتأثير هذا العلم معتمد على قبوله أو رفضه لا على مجرد اكتسابه:
وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون. وأما الذين في قلوبهم مرض فزادته رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون. [التوبة:125]
وما تغني الآيات والنذر عن قوم لايؤمنون.[ ]
فإذا ما عرف الإنسان ربه وآمن به تفجرت ينابيع الخير في قلبه ثم فاضت على جوارحه بمقدار علمه وقوة إيمانه. لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى كما جعل الروح جوهر الإنسان، فقد جعل الإيمان به منبع كل خير فيه. ولذلك كانت الدعوة إليه والتذكير به مفتاح كل دعوة إلى فكر قويم وسلوك مستقيم، وكانت الدواء الذي لا غناء عنه لكل أنواع الانحرافات السلوكية. ولذلك كانت البداية به في جهود الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لإصلاح المجتمعات التي بعثوا إليها. يدعو أحدهم قومه إلى إفراد الله تعالى بالعبودية ثم يدعوهم بعد ذلك إلى تفاصيل الشريعة وإلي ترك ماهم عليه من أنواع الانحرافات السلوكية، خلقية كانت أم اقتصادية أم سياسية أم اجتماعية.
فالإيمان هو الذي يهيئ النفوس لعبادة الله وينشط الجوارح لها
وإذا حلت الهداية قلبا نشطت للعبادة الأعضاء
وهو الذي يهيئها لقبول تفاصيل الشريعة. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها:
لقد نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام. ولو نزل تشربوا الخمر، لقالوا لا ندع الخمر أبدا. ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا. لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم، وإني لجارية ألعب: (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده. [البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن]
وهو السبب الأساس لحل المشكلات الاقتصادية والسياسية والخلقية. أقول إنه الأساس ولا أقول إنه يغني عن التفاصيل التشريعية المبنية عليه، ولا عن الأسباب الطبيعية والاجتماعية التي جعلها الله أسبابا مؤثرة. وهو السبب الأساس لبقاء النعم المادية وزيادتها. والكفر والإخلال به هو السبب الأساس لنقصانها وزوالها.
إ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين. أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم.
ثم:
فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل أنهار.
وإلى عاد أخاهم هودا قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون.
ثم:
وياقوم استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا، ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين.
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب.
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره.[ ]
ثم:
ولا تنقصوا المكيال والميزان. إني أراكم بخير. وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط. وياقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ.
كذبت قوم لوط المرسلين. إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون. إني لكم رسول مبين. فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين.
أتأتون الذكران من العالمين. وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزوجكم بل أنتم قوم عادون.
ثم دمرنا الآخرين. وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين. إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم.
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون. ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون.
وأهم من هذا كله أن عقيدة التوحيد هي سبب السعادة النفسية
(ألا بذكر الله تطمئن القلوب) بل هو سبب السعادة الأبدية لأنها هي السبب الأساس لدخول الجنة وللنجاة من النار:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.[النساء:48]
يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.[الشعراء:88-89]
تأثير الإعلام على العقيدة
وسائل الإعلام ليست قاصرة ـ كما هو معروف ـ على الصحف والمجلات والراديو والتلفاز، بل تشمل الكتب العامة والسينما وربما المسرح وتشمل الآن الشبكة العالمية (الانترنت). لكنني أريد أن أضيف في هذا المقال إليها حتى الكتب المدرسية لعظم تأثيرها على الآلاف المؤلفة من أبناء المسلمين.
إذا استثنينا الإعلام الكنسي بكل وسائله ـ وهو إعلام لا يكاد يتعرض له المسلم ـ فربما استطعنا أن نقول إن الإعلام الغربي نادرا ما يتعرض للمسائل الدينية بطريقة مباشرة. فكيف يكون له إذن تأثير إيجابي أو سلبي على الدين؟ نعم إن له لتأثيرا أيما تأثير لأنه ليس من شرط التأثير أن يكون مباشرا، بل إن التأثير غير المباشر قد يكون أعظم من التأثير المباشر كما سنرى، وهو في غالبه تأثير سيء ، وإن كان لايخلو من بعض التأثيرات الحسنة. ونعني بالتأثير غير المباشر هنا تلك المعتقدات العلمانية الإلحادية المادية الشائعة في الغرب والتي تفترض صحتها والتي تكمن لذلك وراء تفسيراتهم للحوادث الطبيعية والاجتماعية والنفسية، وإن كان لا يصرح بها إلا نادرا.
التأثير السلبي
تأثيرات الإعلام الغربي السلبية على عقيدة المسلم كثيرة، نذكر منها فيما يلي بعض ما يحضرنا ونراه مهما:
أولا: من التأثيرات الشديدة الخفاء البالغة الضرر الاعتقاد السائد بين كثير من علماء الطبيعة والاجتماع، وبالتالي بين عامة المفكرين والصحفيين والمحللين في الغرب، أن التفسير العلمي للحوادث سواء كانت طبيعية أو اجتماعية هو ذلك التفسير القائم على افتراض أن هذا الكون مكتف بنفسه، وأن تفسير حوادثه ينبغي لذلك أن يكون من داخله، أعني أن الظواهر يجب أن تفسر بظواهر أخرى، وأن كل تفسير لشيء من حوادث الكون بإرجاعها إلي سبب خارج عنه هو تفسير خرافي غير علمي.
هذا هو المبدأ المفترض، لكنه لا يقرر بهذه الطريقة الصريحة التي ذكرتها، وإنما يفترض افتراضا، وقد يفترضه ويلتزم به حتى من لم يفكر فيه من العلماء الطبيعيين وسائر المفكرين، والصحافيين. من مظاهر افتراضهم له أنهم يقفون في تفسيرهم للحوادث عند أسبابها الدنيوية ظاهرة كانت أم خفية, ولا يتجاوزونها. وما ذلك للاعتقاد بأنها هي الأسباب الحقيقية الكافية. لكن المسلم مع اعتقاده بفاعلية الأسباب الطبيعية أو الاجتماعية أو النفسية، لا يقف عند حدودها، بل يذكر نفسه بأنها إنما صارت أسبابا بجعل الله لها أسبابا، وأن الفاعل الحقيقي إنما هو الخالق سبحانه.
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يارسول الله : أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله. [سنن الترمذي، كتاب الطب، باب ما جاء في الرقى والأدوية.]
قلت إن هذا المبدأ الإلحادي قليلا ما يصرح به، وأقول إن التزامه في الواقع قد لا يبدو فيه ما يخالف عقيدة المسلم، ما دام المسلم معترفا بتأثير الأسباب المخلوقة وفاعليتها. لكن الأمر في الحقيقة ليس كذلك. إن المتلقي إذا كان لا يسمع لله ذكرا أبدا في كل ما يخبر به من حوادث طبيعية واجتماعية يوشك أن يتأثر بذلك المبدأ فينسى هو الأخر ذكر الله تعالى، وينحو نحو أصحابه في تفسيره للحوادث، فلا تكون له فيها عبرة.
المبدأ الغربي الثاني الذي أراه أيضا ذا أثر سيئ، والذي أراه قد بدأ ينتشر حتى بين المسلمين في العالم الإسلامي بسبب التأثر بالثقافة الغربية التي تنقل عن طريق وسائل الإعلام، هو مبدأ النسبية. أعني نسبية الحقائق، والقيم. لقد أصبح من المسلمات عند كثير من الناس في الغرب أنه لا توجد حقيقة مطلقة، ولا قيمة مطلقة، وإنما الحقائق والقيم نسبية، أي إنها منسوبة وتابعة لزمانها أو مكانها أو الحضارة والثقافة التي ظهرت فيها، وهكذا. فما قاله الناس في العصر الفلاني، أو اعتقدوه في المكان الفلاني، أو رأوه حسنا في الحضارة الفلانية، كل هذا صحيح أو معقول بالنسبة لهم وإن كنا نراه نحن في ظروفنا أو زماننا أو حضارتنا على غير ما رأوه. وما دام الأمر كذلك فليس من حق أحد أن يقول إن فهمه لنص من النصوص هو الفهم الصحيح أو إن فهم خصمه خطأ. وأننا ينبغي لذلك أن نكون سلفيين في فهمنا للنصوص، فللسلف زمانهم ولنا زماننا، ولهم ظروفهم ولنا ظروفنا. بل قد رأيت بعضهم غلا في هذا الأمر حتى قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يفسر القرآن لعصرنا لأنه لا يعرفه.
ثالثا الاعتقاد في المفهوم السلبي للحرية. وإذا كان الاعتقادان السابقان مما يفترض ولا يذكر، فإن هذا مما يكثر ترداده والتصريح به، والدعوة إليه، والتفاخر به، في كل أجهزة الإعلام. وقد أثر لذلك في الناس تأثيرا بالغا حتى صار من المسلمات حتي عند كثير من المسلمين. إن الحرية بمعنى أن الله تعالى أعطى الإنسان المقدرة على الاختيار كما أعطاه المقدرة على العمل، أمر لا شك فيه، بل ربما كان هو مما يتميز به الإنسان. وقد شاء الله تعالى أن يجعل الإنسان شائيا، ومسؤولا عن مشيئته، (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا). فالمنازعة ليست إذن في كون الإنسان ذا إرادة ومشيئة واختيار، وإنما هي في الطريقة التي تستعمل بها هذه المشيئة أو الحرية التي منحها الله تعالى للإنسان. المفهوم السلبي للحرية يجعلها غاية في ذاتها، بمعنى أن كرامة الإنسان تزداد بازياد استقلاله في اتخاذ قراره، أيا كان ذلك القرار. أي إن العبرة في الاختيار لا فيما يختار. وعليه فكلما مكن الإنسان من أن يفعل ما يشاء كان هذا أكرم له وأكثر تحقيقا لإنسانيته. هذا المفهوم السلبي للحرية مفهوم قديم وإن تزيى بزي حديث. إنه المفهوم المرتبط بالاستكبار والكفر. وهو المفهوم الذي لجأ إليه قوم شعيب في احتجاجهم على أمره لهم بعبادة الله وعدم الظلم في المعاملات المالية. (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)[ ] وهو المفهوم الذي ذمه الله تعالى في قوله (أيحسب الإنسان أن يترك سدى؟)[ٍالقيامة:36] أي لا يؤمر ولا ينهى. فالإسلام يعلمنا أن كرامة الإنسان لا تتحقق بمجرد الاختيار، لأن هلكة الإنسان قد تكون فيما يختار. (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدي فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون) [فصلت: 17] وإنما تتحقق باختياره للحق وللخير، ولما يختار له ربه (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا)[ الأحزاب:36]
رابعا: في الإعلام الغربي هجوم على المسلمين ولا سيما العرب، هجوم قال عنه الأستاذ إدوارد سعيد إنه من النوع الذي لم يعد مقبولا في الغرب حين يوجه لليهود أو السود أو الآسيويين أو الأفارقة. يتهم العرب بعدم الأصالة وبالمحافظة وبعدم المقدرة على التحضر، وبالارهاب، بل وبالتواكل وبالقذارة، ثم يقال إن سبب هذا كله هو الإسلام. هذا كلام يبدو لأمثالنا سخيفا لا يستحق حتى أن يرد عليه، لكن ينبغي أن لا نقلل من تاثيره على شاب في مقتبل عمره، ولد في بلد غربي وترعرع فيه. عندما ظهر كتاب الآيات الشيطانية طلب مني إخواننا في مجلة Impact أن أكتب نقدا له. فعندما قرأته قلت لهم كلاما فحواه أنه كتاب سخيف ثقيل ما أظن أحدا سيكمل قراءته، فأرى لذلك أن لا تهتموا به، بل اتركوه ليموت. لا زلت أذكر ردهم. قالوا إن الكاتب معروف في أوساط الشباب ذوي الأصول الهندية الباكستانية، وأنهم قارئوه لا محالة.
خامسا: يكثر في الإعلام الغربي الحديث عن الدين بطريقة هازلة، ولإثارة الضحك، حتى فيما يتعلق بالخالق سبحانه وتعالى. ويكثر فيه وصف الخالق بكلمات لا احترام فيها، كما نرى ذلك مثلا في عنوان الكتاب الذي دخل ضمن أكثر الكتب بيعا في أمريكا. إن اسمه: سيرة الله. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. إن كثيرا من المسلمين المعاصرين لا يدرون أن الكلام عن الخالق بمثل هذه الطريقة يخرج صاحبه عن ملة الإسلام. ألم يقل الله تعالى عن بعض أمثال هؤلاء
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب. قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم.
سادسا: ومما يتصل بهذا أنهم لم يعودوا يأخذون الدين مأخد الجد، لكنهم يصورون هذا بأنه تسامح، وسعة أفق، ويصمون كل من يبدو منه استمساكا شديدا بالدين بالتطرف، أو ضيق الافق والتعصب وعدم العقلانية، وهكذا. لذلك تعجب كثير من الغربيين من الضجة التي أثارها المسلمون بسبب ما قاله مؤلف الآيات الشيطانية عن الله تعالى. وقد تأثر الإعلام في البلاد العربية والإسلامية بهذا الانحراف فعاد هو الآخر يطبقه على كل من يبدو منه شدة استمساك بنصوص الكتاب والسنة، وعاد يمدح كل منتسب للعلم يبدو منه هذا النوع من التحلل.
سابعا: الإعلام الغربي ـ التلفاز والمجلات والقصص والأفلام والانترنت ـ مليء بإثارة الشهوات الجنسية بكل نوع من صور الإثارة، بالكلمة والصورة، بالشعر والقصة، بأخبار المنحرفين وبنشر الفضائح. قد يقال لكن ما علاقة هذا بالعقيدة التي هي موضوع بحثنا؟ وأقول نعم. إن الإنسان قد يقع في المعاصي الجنسية ويظل مع ذلك محتفظا بإيمانه وصفاء عقيدته. لكن من هنالك صلة بين الشهوات والشبهات كما نبهنا إلى ذلك علماء السلف. فالذي يكثر يشتد ضعفه أمام الشهوات يضعف قلبه، فيكون مهيأ للتأثر بالشبهات المتعلقة بالعقيدة، كتلك التي ذكرناها آنفا.
ثامنا: وهنالك شبهات مباشرة وجدت في الانترنت مرتعا خصبا لها، شبهات يثيرها خصوم الإسلام المختصون بمحاربته على صعيد الفكر، ويثيرها أهل الأهواء من المنتسبين إلى الإسلام من مفكرى الفرق الضالة. كلاهما أصبح يتستر وراء هذه الشبكة ويعلن فيها ما قد يتردد من التصريح به في وسائل الإعلام الأخرى. وقد رأيت بعض الشباب يتابعون ما ينشر في أمثال هذه الصفحات، ثم يأتون ليسألوا عن كيفية الرد عليها، لأن علمهم بالدين قليل، والشبهات قوية مضلة.
تاسعا: وربما كان سبب هذا كله أن في الغرب عدم اطمئنان إلى الدينين الشائعين فيه، وعدم ثقة برجالهما، بل وشك في إمكانية الاستقامة. وهذا داء في الغرب قديم أكثر ما يظهر في الأدب، حتى لقد قال احد نقادهم ـ أظنه الدوس هكسلي ـ إنه لا يوجد في أبطال روايات شكسبير رجل خير. وأنت تلاحظ هذا في القصص التي يقرؤها الناس بشغف. إن الشخصية المستقيمة أو المتدينة في القصة كثيرا ما ما تصور بأنها شخصية منافقة تفعل في الخفاء ما يخالف مسلكها الظاهري، حتى لقد أصبحت المجاهرة بالسوء نوعا من الصدق مع النفس والصراحة. وبما أن الغربيين لا يعرفون دينا غير دينهم فإنهم لا يتحدثون عن اليهودية والنصرانية بخصوصهما وإنما يتحدثون عن الدين بصفة عامة. ومن هنا يأتى خطر كلامهم على الطفل او الشاب المسلم الذي يعيش بين ظهرانيهم، بل حتى الذي يتعرض في بلده الإسلامي لإعلامهم وثقافتهم.
الآثار الحسنة
مع كل ما ذكرنا من مثالب الإعلام الغربي فيما يتعلق بالعقيدة، فإن له محاسن تتعلق بها ليس من الإنصاف تجاهلها. من ذلك:
أولا: أن البلاد الغربية أضحت في زماننا هي موطن الكشوف العلمية والتقدم في العلوم الطبيعية، وأضحى إعلامها هو المختص بإذاعتها على المستوى العالمي حتى لو حدث الاكتشاف في بلد غير غربي. فهنالك قنوات تلفازية كالقناة الأمريكية المساة Discovery وقناة وكالة Nasa وهنالك مجلات أسبوعية كمجلة Scientific American ومجلة Discovedry الأمريكية، ومجلة New Scientist الإنجليزية، وهنالك البرامج العلمية التي لا تكاد تخلو منها إذاعة غربية. وقد تطورت هذه الكشوف تطورا هائلا، فأظهرت من عجائب صنع الله تعالى في العالم الخارجي وفي المخلوقات الأرضية الدقيقة ما يكاد يجعل من المستحيل على الملحد أن يستمر في الادعاء بأن كل هذا إنما حدث مصادفة وبغير قوة مدبرة. ولهذا فقد بدأ بعض هؤلاء الملحدين يتراجعون عن إلحادهم وصار بعضهم يشك فيه. أما المؤمنون بوجود الخالق فقد زادتهم هذه الكشوف إيمانا. وأما المسلمون منهم فإنها لا تكون بالنسبة لهم تأكيدا لوجود الخالق فحسب، بل زيادة يقين بدينهم وعودة إليه إن كان قد حدث عنه منهم بعد.
ثانيا: من الحقائق التي لا يزال العقلاء من المفكرين الغربيين يكررون التذكير بها ويجذرون من مغبتها، والتي يراها المعايش لهم والمتتبع لأخبارهم في إعلانهم، أنه قد صاحب بعدهم عن القيم الدينية تدهور في الحياة الخلقية؛ فالمخدرات والإباحية الجنسية، تزداد انتشارا حتى بين الصغار من طلاب المدارس، ويزداد معها اللجوء إلى العنف والقسوة. وقد اعتبر بعض المسلمين بهذا فرجعوا إلى دينهم بعد أن كانوا قد بعدوا عنه. سئل أحدهم: ما الذي أعادك إلى دينك؟ فأجاب: قلت في نفسي إذا كانت هذه هي نتيجة الطريق الذي أنا سالكه فإنها نهاية لا أريدها. بل إن كثيرا من الآباء والأمهات في أمريكا صاروا يفرحون بإسلام أبنائهم وبناتهم حين يرون التغيير الذي طرأ عليهم. لقد صار الغرب هي هذا المجال عبرة لكل عاقل معتبر. نسأل الله تعالى أن يهديهم للدين الحق ويقيهم من مصائر هذا الطريق الذي هم سالكوه.
ثالثا: بالرغم مما في الشبكة العالمية من العيوب التي ذكرناها، إألا أنها أتاحت للمسلمين فرصة لم تتح لهم من قبل في وسائل الإعلام الأخرى لتعريف الغربيين بالإسلام وللرد على الشبهات التي تثار حوله، ولتكون منبرا مفتوحا للحوار بين المسلمين أنفسهم وللرد على أسئلة السائلين منهم ومن غيرهم. ونحن وإن لم نكن قد استفدنا من هذه الوسيلة الجديدة الفائدة التي تبيحها لنا إلا أن الشباب المتابعين لما ينشر في صفحاتها الإسلامية ـ وما أكثرهم ـ قد انتفعوا بها، وشغلوا بها عن المداومة على مشاهدة التلفاز. ولم يقتصر نفعها على المسلمين، بل إن بعض المشاركين من غير المسلمين يطلع عليها ويبدي لأصاحبها ويكتب لهم فيها مستفسرا أو طالبا لمزيد من المعرفة. بل لقد كانت سببا لهدايتهم بعضهم إلى الإسلام.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
منقول من [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] | |
|