سيف النصر علي عيسى مدير عام
نقاط : 446 تاريخ التسجيل : 24/12/2009
| موضوع: البحث في مقاصد الشريعة نشأته وتطوره ومستقبله الإثنين أبريل 13, 2015 6:34 am | |
| | |
|
سيف النصر علي عيسى مدير عام
نقاط : 446 تاريخ التسجيل : 24/12/2009
| موضوع: رد: البحث في مقاصد الشريعة نشأته وتطوره ومستقبله الإثنين أبريل 13, 2015 6:35 am | |
| بعد الجويني وقبل الشاطبي الكتابات عن مقاصد الشريعة فيما بعد الجويني، وإلى الشاطبي ، جعلت هذه المرحلة مكشوفة و مضاءة بدرجة جيدة بفضل الأبحاث و الدراسات الكثيرة التي أنجزت حول هذه الحقبة و أعلامها، ابتداء بأبي حامد الغزالي و انتهاء بأبي إسحاق الشاطبي، مرورا بأبي الوليد بن رشد، وأبي بكر بن العربي، و فخر الدين الرازي، و سيف الدين الآمدي، و عز الدين بن عبد السلام، و شهاب الدين القرافي، و نجم الدين الطوفي، و ابن تيمية، و ابن قيم الجوزية. فهؤلاء جميعا نشرت و ذاعت ودرست كتبهم وأفكارهم وإسهاماتهم المقاصدية، على ما بينها من تفاوت كبير، كما و كيفا. ولعل في القائمة البييليوغرافية التي أعدها الدكتور محمد كمال إمام و نشرها في العدد الخاص من مجلة (المسلم المعاصر) بيانا وافيا لذلك. ولهذا لا أطيل في الحديث عن هذه الحقبة التي تمتد أربعة قرون، و أقتصر منها على تسجيل النقط الآتية: - للإمام أبي حامد الغزالي( 505ت) مكانة عالية وتأثير بليغ في مسار الفكر المقاصدي منذ زمنه وإلى الآن، و له إبداعاته و سوابقه في التطوير والارتقاء بهذا الفكر. و لو أن معظم ذلك نجد أصوله و بذوره عند شيخه الإمام الجويني. و قد استقص الباحث المغربي الأستاذ محمد عبدو عناصر الجدة و السبق في الفكر المقاصدي لأبي حامد، مما تكرر لاحقا عند الشاطبي، فذكر من ذلك[65]: 1- تقسيم المصالح إلى ضرورية وحاجية وتحسينية. 2- مقاصد الشرع يتم حفظها من جهتي الوجود و العدم (الحفظ الوجودي والحفظ العدمي). 3-المصالح التحسينية تنعطف على الضرورية و الحاجية انعطاف التتمة و التكملة 4- فقدان المصالح التحسينية لا يلزم منه فقدان الضرورية و لا الحاجية. 5- كل قسم من الأقسام الثلاثة له أذياله و مكملاته. 6- المصالح المكملة لغيرها إنما تعتبر بشرط ألا تعود على أصلها بالإبطال. 7- قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصد الشارع في التشريع. ومن أهم أوائل الإمام الغزالي كذلك، ما قرره وكرره من كون المصالح الضرورية(الضروريات الخمس) محفوظة في كافة الشرائع المنزلة، وأنه "يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق. ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنا، والسرقة، شرب السكر"[66] إذا كان الإمام الغزالي قد تحدث كثيرا عن الضروريات الخمس، واشتهرت على يده تسميتها وأمثلتها ومكملاتها، وكذلك ترتيبها، على هذا النحو: (الدين والنفس، والعقل، والنسل، والمال)فإن سيف الدين الآمري قد يكون الأول الذي توقف عند مسألة ترتيب الضروريات الخمس، فناقش وعلل وعدل. وقد اختار تقديم النسل على العقل،[67] خلافا للغزالي الذي دأب على تقديم العقل على النسل. أما بقية الأصوليين التقليديين من مختلف المذاهب، فلا نكاد نجد عندهم شيئا يستحق التسجيل والذكر.بل نجد مصنفاتهم -على العموم- تمثل تراجعا ونزولا مستمرا نحو الصورية والعقم والانحطاط عن المستوى الأصولي والمقاصدي الذي وصله الجويني والغزالي. لكن بجانب هذا الخط الأصولي التقليدي، وربما خروجا عليه، نجد في هذه الحقبة عددا من فطاحل العلماء المتحررين المجددين.فبعض هؤلاء استمر معهم النمو والازدهار للفكر المقاصدي تنظيرا وتطبيقا، حتى وصل الأمر إلى الشاطبي. وأذكر من هؤلاء على وجه الخصوص:ابن عبد السلام و تلميذه القرافي، ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. ومن بين هؤلاء، يتميز الإمام عز الدين بن عبد السلام، بشيء لم يفعله أحد قبله ولا بعده في العصور السابقة، وهو تناوله المفصل والمعمق ـ النظري والتطبيقي- لموضوع المصالح والمفاسد، وذلك في كتابه"قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، وهو محقق مطبوع متداول، فلا أطيل في التعريف به ولا في تحليل مضامينه.[68] وفي هذه الحقبة أيضا نجد تصنيف كتابا آخر على النمط الفقهي التعليلي، وهو(محاسن الاسلام وشرائع الاسلام)للفقيه الحنفي أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمان البخاري(ت546)، وهو يشبه-اسما ومضمونا- كتاب (محاسن الشريعة) للقفال الكبير، إلا أنه متأخر عنه زمنا ومستوى. الشاطبي مؤسس علم المقاصد إذا كان الإمام محمد بن إدريس الشافعي قد اعتبر مؤسس"علم أصول الفقه"، بالرغم من أنه لم يدع ذلك، بل مات رحمه الله، وهو لا يعرف حتى مصطلح"علم أصول الفقه"فكذلك الشأن مع إمامنا أبي اسحاق الشاطبي الغرناطي، الذي اعتبره الكثيرون مؤسس"علم مقاصد الشريعة"بالرغم من أنه لم يدع ذلك، ولا استعمل هذا اللقب. الإمام الشاطبي أصبح رديفا لمقاصد الشريعة، فلا يكاد يذكر إلا ذكرت معه، و لا تذكر إلا ذكر معها. وقد طارت شهرته وذاع صيته، وكتب عنه في زمننا من المؤلفات ومن الأبحاث والمقالات ما لا يكاد يحصى. فلذلك ليس من اللائق أن أطيل وأفصل في الحديث عنه وعن مكانته في الشريعة، لاسيما وأنني أحد الذين كتبوا كتبا عن الشاطبي.[69] ولكن هذا لا يمنع من ذكر رؤوس بعض المسائل -المسألة الأولى ما جاء في عنوان هذه الفقرة، وهو تأسيس"علم مقاصد الشريعة". فكل الذين يؤمنون بانبثاق هذا العلم وتميزه، أو يؤمنون بضرورة ذلك وفائدته، أو أنه آخذ طريقه نحو التبلور والاستقلال ، كل هؤلاء يعتبرون أن عمل الشاطبي كان عملا تأسيسيا في هذا المضمار. وقد اشتهر العلامة محمد الطاهر ابن عاشور بأنه أول من دعا إلى تأسيس علم جديد، يستقل عن علم أصول الفقه ويتكامل معه، هو (علم مقاصد الشريعة). ولكنه هو نفسه يردف قائلا بعد دعوته تلك: "والرجل الفذ الذي أفرد هذا الفن بالتدوين هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المالكي، إذ عني بإبرازه في القسم الثاني من كتابه المسمى(عنوان التعريف بأصول التكليف في أصول الفقه)[70]، وعنون ذلك القسم بكتاب المقاصد"[71] -المسألة الثانية، هي أن الشاطبي جمع ما تفرق عند غيره وما تراكم وتطور عند سابقيه، لكن جمعه هذا كان عملا بنائيا منسقا، مع مزيد من البيان والتتميم، ليخرج ذلك كله على شكل نظرية متكاملة في مقاصد الشريعة. -المسألة الثالثة: مما هيأ لاكتمال هذا البناء على يد الشاطبي، إلى حد أصبحنا معه اليوم نتحدث-ىمتفقين أو مختلفين- عن"علم المقاصد"، كونه افتتح الكلام في أبواب جديدة تتعلق بمقاصد الشريعة، منها: مقاصد المكلف في علاقتها بمقاصد الشارع، ومنها علاقة المقاصد بالاجتهاد ومدى توقفه عليها، ومنها طرق إثبات المقاصد. فهو في هذه المباحث كلها مبتكر و مجدد ومؤسس.[72] -المسألة الرابعة: إن الاستفادة من عمل الشاطبي لم تحصل لا في زمن الشاطبي ولا في القرون التي أعقبته، لأن الزمن الإسلامي كان قد توقف و تجمد، إلى أن تحرك من جديد في غصون قرن مضى، يزيد أو ينقص... ابن عاشور يستأنف البناء منذ أن تعرفت على التراث العلمي للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور، واستوعبت قيمته وأهميته، وأنا أعرب عن أسفي لما أصابه من حيف وإهمال.وكثيرا ما كنت أقول:ماذا لو كان ابن عاشور مصريا أو شاميا أو سعوديا؟ فالانتماء التونسي والمغربي الإفريقي عموما، هو نفسه جزء من المشكلة، فهي مشكلة تاريخية جغرافية قديمة. ولكن الجزء الأكبر في المشكلة هو ما نجم عن الانقلاب الكبير والشامل الذي عرفته تونس في مرحلة ما بعد الاستقلال، وخاصة في الوضع الديني والثقافي والفكري، الذي لم يبق فيه مكان ولا مكانة لابن عاشور وأمثاله. ولعل أول كتاب كامل يصدر حول ابن عاشور، هو الذي أصدره المعهد لعالمي الفكر الإسلامي، وهو(نظرية المقاصد عند الإمام ابن عاشور) للدكتور إسماعيل الحسني (صدر سنة 1995)، ثم تبعه كتاب الدكتور بلقاسم الغالي(شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور)(نشر في لبنان سنة 1996) وفي السنة الماضية(2004)صدرت من لندن طبعة جديدة مع دراسة جيدة، لكتاب ابن عاشور(مقاصد الشريعة الإسلامية) للأستاذ محمد الطاهر الميساوي. وأخيرا صدر أهم عمل علمي عن ابن عاشور، وهو لتلميذه العلامة محمد الحبيب ابن الخوجة، وللأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي.وقد طبع على نفقة أمير دولة قطر.هذا الكتاب يحمل اسم(محمد الطاهر ابن عاشور وكتابه مقاصد الشريعة الإسلامية)وهو في ثلاثة مجلدات ضخمة، هي: -الجزء الأول:شيخ الإسلام محمد الطاهر ابن عاشور. -الجزء الثاني:بين علمي أصول الفقه والمقاصد. -الجزء الثالث:مقاصد الشريعة الإسلامية، لشيخ الإسلام، الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور(تحقيق ومراجعة) هذه المؤلفات، فضلا عن أبحاث ومقالات وفقرات أخرى، قد جعلت الشيخ ابن عاشور يتبوأ الآن شيئا فشيئا مكانته، ويصبح أكثر فأكثر معروفا هو وكتبه، وخاصة منها كتابه(مقاصد الشريعة الإسلامية). فلهذه الأسباب، أجدني، مرة أخرى، في غنى عن التطويل والتفصيل في الحديث عنه، وأقتصر على العناصر الأكثر جدارة بالذكر في هذا السياق. 1- عمل ابن عاشور في مجال الدراسات المقاصدية شبيه بعمل الشاطبي، من حيث طابعه التأسيسي، فهو- كما صرح بنفسه- يقتفي أثره، ويبني على ما أسسه، ثم يضيف ما عنده.ولقد أحسن الأستاذ محمد الطاهر الميساوي حين وصف ابن عاشور بأنه "المعلم الثاني" بعد "المعلم الأول" الذي هو الشاطبي[73]. فابن عاشور واصل الكلام في أهمية المقاصد ومدى احتياج الفقه والاجتهاد الفقهي إليها. كما واصل الكلام في طرق إثبات المقاصد، .بالإضافة إلى مزيد من التعمق في القضايا المألوفة، كالمصالح وأقسامها... 2-من أبرزها ما أضافه ابن عاشور, هو ذلك النوع من المقاصد الذي خصص له القسم الثالث من كتابه, و سماه"مقاصد التشريع الخاصة بأنوع المعاملات "، و أدرج تحته: -مقاصد أحكام العائلة. -مقاصد التصرفات المالية . -مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على الأبدان -مقاصد أحكام القضاء والشهادة - المقصد من العقوبات لقد كان الكلام في مقاصد الشريعة قبل ابن عاشور ينصرف إما إلى المقاصد العامة، وهي التي خصص لها القسم الثاني، وسماها "مقاصد التشريع العامة"، وإما إلى مقاصد الأحكام التفصيلية، أي المفاصل الجزئية، فلما جاء ابن عاشور كشف عن مستوى آخر من المقاصد، يتوسط بين العامة والجزئية، وهو ما يتعلق بمجال تشريعي معين، كالمجالات التي ذكرها. 3- ابن عاشور هو أول من نادى صراحة بتأسيس علم جديد هو "علم المقاصد"[74]، ويبدو أنه كان يؤلف كتابه على هذا الأساس. 4- لا بد من الاعتراف بأن الطفرة التي أحدثها ابن عاشور في مجال مقاصد الشريعة، متمثلة في العناصر الثلاثة السابقة، وأيضا في كونه أدخل الدراسة المقاصدية في البرنامج الدراسي لجامعة الزيتونة، وفي فكره المقاصدي المبثوت في عامة إنتاجه الفقهي والأصولي والتفسيري والحديثي والفكري، هذه الطفرة لم تنبت من فراغ، ولم تأت بغتة، بل هي مسبوقة ومعززة بالحركة الإصلاحية التجديدية الشاملة التي كانت تعتمل آنذاك لدى علماء مصر وتونس والجزائر والمغرب وغيرهم. وتعززت كذلك بنشر كتاب(المواقفات) الذي طبع في حياته عدة مرات بتونس ومصر، وقام هو نفسه بتدريسه للطلبة الزيتونيين . فابن عاشور مدين لكل هذه العوامل التي جنى ثمرتها. الصحوة المقاصدية المعاصرة. 1ـ في سياق العناصر المشار إليها في الفقرات السابقة، وبعد سنوات من صدور كتاب ابن عاشور، نجد الزعيم والعلامة المغربي علال الفاسي(ت1974) يحمل راية المقاصد والفكر المقاصدي على نطاق واسع في عدد من المؤسسات الجامعية المغربية، ويتوج ذلك بتأليف كتابه(مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها)، وهو الكتاب الذي يقول عنه:"وكان أصله محاضرات ألقيتها على كل من طلبة الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط، وطلبة كلية الحقوق بنفس الجامعة بفاس، وطلبة كلية الشريعة بجامعة القرويين من نفس المدينة "[75] وهذا ـ كما لا يخفى- توسع كبير في تدريس مقاصد الشريعة وتلقين قضاياها ونشر ثقافتها، وإخراج لها من الحيز الضيق الذي كان لا يتجاوز- في أحسن الحالات- خاصة الخاصة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل استمر وترسخ وتضاعف أضعافا كثيرة. فبعد سنوات قليلة من وفاة علال الفاسي رحمه الله، نجح بعض رفاقه وتلاميذه في افتتاح أقسام للدراسات الإسلامية في كليات الآداب والعلوم الإنسانية، وهي الكليات التي توجد في جميع الجامعات المغربية، حيث جعلت فيها "مقاصد الشريعة" مادة دراسة مستقلة يدرسها آلاف الطلبة بصفة منتظمة طيلة سنتهم الجامعية. هذه السنة الحسنة ما لبثت أن انتقلت واتسعت، وعمل بها في مستويات ومؤسسات جامعية أخرى بالمغرب وخارج المغرب. وهذا هو التطور التاريخي الأعظم الذي عرفته مقاصد الشريعة والدراسات المقاصدية منذ كانت. بل إن هذا التطور أصبح يخدم مقاصد الشريعة في سنة واحدة بأضعاف مضاعفة عما كان يحصل على مدى قرون. ذلك أن الأمر لم يقف عند تدريس المقاصد لألوف الطلاب في عدد من الجامعات عبر العالم، بل امتد إلى البحت العلمي، الجامعي وغير الجامعي، وامتد إلى حركة التأليف والنشر، وامتد إلى المجالات والندوات المتخصصة. وها نحن اليوم نتدارس مبادرة كريمة، هي الأولى في بابها، لتأسيس "مركز دراسات مقاصد الشريعة". فهذا ما أعنيه بالصحوة المقاصدية المعاصرة. مستقبل البحث في مقاصد الشريعة البحث في مقاصد أضحى اليوم ينمو ويتسع بوتيرة لم يسبق لها مثيل، سواء في الجامعات أو خارجها. غير أن ذلك يجري بكثير من العفوية أو العشوائية، مما يؤكد الحاجة الملحة لكثير من التفكير والتخطيط والتوجيه، من أجل ترشيد البحث المقاصدي. بين يدي ذلك أضع فيما يلي بعض الخطوط العريضة التي يمكن اعتمادها في هذا المجال. أولا ـ الدراسة المقاصدية للقرآن والسنة: لقد تحقق قدر معتبر من النشر والدراسة للمؤلفات والإسهامات المقاصدية لعدد من علمائنا، من فقهاء وأصوليين ومتكلمين وغيرهم. ولقد أصبح الآن لزاما التوجه إلى الدراسة المقاصدية المباشرة لنصوص القرآن والسنة، لأن مقاصد الشريعة ـ في البدء وفي النهاية ـ إنما هي مقاصد الكتاب والسنة لا أقل ولا أكثر، فإذا كنا نلتمس المقاصد ونستخرجها من كتب الفقه وكتب الأصول وغيرها، فأولى بنا الآن أن نلتمسها ونستخرجها من القرآن الكريم والسنة النبوية. فإنما المقاصد مقاصدهما، وإنما الأصول أصولهما. قال الإمام الشاطبي وهو يحكي رحلته مع المقاصد ومع كتاب (الموافقات): « ولما بدا من مكنون السر ما بدا، ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى،لم أزل أقيد من أوابده، وأضم من شوارده تفاصيل وجملا، وأسوق من شواهده في مصادر الحكم وموارده مبينا لا مجملا، معتمدا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية، ومبينا أصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية، حسبما أعطته الاستطاعة والمنة في بيان مقاصد الكتاب والسنة"[76] ثم قال رحمه الله في موضع آخر"إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر... وإذا كان كذلك، لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها، أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الليالي والأيام... ولا يقدر على ذلك إلا من زاول ما يعينه على ذلك من السنة المبينة للكتاب.[77]" على أن مقاصد القرآن والسنة ليست محصورة في آيات الأحكام وأحاديث الأحكام. بل كل الآيات والأحاديث لها مقاصدها،ويجب أن تدرس وتفهم بمقاصدها. فالقصص القرآني له مقاصده، والأدعية القرآنية والنبوية لها مقاصدها[78]، وضرب الأمثال في القرآن والسنة له مقاصده، كما للآيات والأحاديث التشريعية مقاصدها. وما ذكره ابن بطال وابن القيم من كون القرآن والسنة مليئين بآلاف التعليلات والتنبيهات المقاصدية، يجب استقصاؤه واستخراجه ودراسته بالكامل، وهذا وحده يتطلب عدة أبحاث ومؤلفات. ثانيا: مقاصد العقائد وهذا المجال في تقديري هو أهم المجالات والآفاق التي على البحث المقاصدي ارتيادها وإلحاقها بمجالات الدراسات المقاصدية، وأعني به البحث في (مقاصد العقيدة الإسلامية)، تماما مثلما بحث السابقون ويبحث المعاصرون في(مقاصد الشريعة الإسلامية). وليست شرائع الإسلام أولى بالعناية وبالبحث عن مقاصدها من عقائد الإسلام. فلماذا نجد الحديث ينمو ويتكاثر عن مقاصد الأحكام ولا نجد شيئا عن مقاصد العقائد؟ ! ففي الفقه والتشريع كانت مقاصد الأحكام حاضرة ومؤثرة في الفهم والاستنباط والاجتهاد والتطبيق، مما جعل الحديث عن مقصود الشرع، ومقصود الحكم، وحكمة الشريعة ومقاصد الشريعة، حديثا مألوفا ومعتمدا عند عامة علماء الفقه وعلماء أصول الفقه. أما مجال العقائد(علم التوحيد وعلم الكلام) فقد خلا تقريبا من النظر المقاصدي، وكأن عقائد الإسلام ليس لها مقصد ولا غرض ولا ثمرة ترجى، وأن على المكلف أن يعتقدها ويعقد عليها قلبه ليس إلا. وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فإنه قد يهون، ولكن الذي حصل ونتج عن تغييب مقاصد العقائد هو اتخاذ مقاصد غير مقاصدها،تم تنفيدها من الخصوم المناوئين، والرد عليها بما يضادها. وأدخلت العقائد الإسلامية- تلك البسيطة البريئة- في متاهات ذهنية خيالية أفقدتها قيمتها وفائدتها، وصرفتها عن مقاصدها وعن بعدها العلمي. أنا أنطلق من أن لكل عقيدة من عقائد الإسلام(الإيمان بالله،صفات الله وأسماؤه الحسنى،النبوات،القضاء والقدر، الملائكة، اليوم الآخر، الجنة،النار، الصراط،الثواب، العذاب...) كل عقيدة من هذه العقائد، وضمنها عقائد جزئية، لها مقصودها الشرعي أو مقاصدها. وهي مقاصد-كمقاصد الأحكام التشريعية-مصرح ببعضها، أو مومأ إلى بعضها، وبعضها يدرك بالبداهة والفطرة، أو يدرك بالنظر والربط والاستنتاج. بل إن مقاصد العقائد تدرك أيضا من خلال مقاصد الشريعة مثلما العكس أيضا. فإن الشرائع والعقائد ملة واحدة ذات مقاصد واحدة. المهم: لكي تستعيد عقائدنا وجهها الحقيقي وتؤدي دورها الحقيقي، وتستعيد موقعها الأساسي في حياتنا وعلومنا وثقافتنا، لابد من البحث في مقاصدها الشرعية، ودراستها والتعامل معها في ضوء مقاصدها تلك. فهذا مجال كبير وبكر من مجالات(علم المقاصد)، يحتاج إلى باحثين أفذاذ ومستكشفين رواد. وقد انشغلت بهذا الموضوع وتهممت به منذ عدة سنوات، حيث عرجت بي بعض الناسبات على نقاشات وقراءات في بعض القضايا العقدية. وكنت فيما قبل قد تعاملت كأي طالب علم مع هذا المجال وقضاياه وتقبلته على ما هو عليه، ثم مضيت إلى شيء من التخصص والتركيز في مجالي الأصول والمقاصد وغيرهما. فلما عدت مؤخرا إلى بعض المراجعات والمناقشات العقدية، هالني أن أجد العقائد بلا مقاصد !ونما في نفسي هم وقلق شبيه بذلك الذي عبر عنه أبو الوليد بن رشد رحمه الله بقولــه : " فإن النفس مما تخلل هذه الشريعة من الأهواء الفاسدة والاعتقادات المحرفة في غاية الحزن والتألم[79]" وأنا إلى الآن أتعجب وأتساءل: كيف ظهر في المسلمين(علم مقاصد الشريعة) ولم يظهر فيهم(علم مقاصد العقيدة) !؟ ولقد كدت أستسلم لمقولة (الواقع لا يرتفع)، ولكن نظرا لأهمية القضية وخطورتها وشدة إلحاحها علي، بدأت أفكر وأقتنع بأن هذا الواقع لابد أن يرتفع . فإذا لم أكن أنا متخصصا في مجال العقائد ولا قادرا على التفرغ له، فلأكن فيه داعيا ومناديا. وفي هذا السياق تأتي إثارتي لهذه القضية ودعوتي إلى بحثها ومعالجتها فيما يستقبل من مسيرة البحث المقاصدي. ثالثا: طرق إثبات المقاصد هذا الموضوع كما لا يخفى هو مفتاح الكشف والإثبات لمقاصد الشريعة. وهو أيضا المفتاح الذي به نغلق الباب على أدعياء المقاصد والمتقولين على المقاصد، والمتقولين على الشريعة وأحكامها باسم المقاصد. فحينما يصبح القول في مقاصد الشريعة وتحديدها وتعيينها وترتيبها عملا علميا دقيقا ومضبوطا له أصوله ومسالكه وقواعده، يمكننا أن نتقدم بثبات وثقة في مزيد من الكشف عن مقاصد الأحكام، إتماما- ولربما تصحيحا- لما قام به أسلافنا من فقهاء وغيرهم. على مر العصور. كما أن هذا سيغلق الباب على الطفيليين ودعاة التسيب باسم المقاصد والاجتهاد،الذين أصبح شعارهم" لا نص مع الاجتهاد" و"حيثما كان رأينا فتلك هي المصلحة" و"حيثما اتجه تأويلنا وغرضنا فتلك هي مقاصد الشريعة ". نعم لقد بذلت مجهودات، وكتبت أبحاث وفصول ومقالات في هذا الموضوع، من ذلك بحث الأستاذ فريد شكري، المقدم بهذه الكلية، وبحث الدكتور نعمان جغيم، وهو مطبوع بعنوان(طرق الكشف عن مقاصد الشارع)،ولكنها تظل حتى الآن قاصرة كما وكيفا عن سد هذه الثغرة وإيفائها حقها، بما يتناسب مع أهميتها وخطورتها. رابعا: إعمال المقاصد واعتمادها في قضايا الفكر الإسلامي المعاصر. إن مقاصد الشريعة - العامة منها والجزئية- تمثل ثوابت الإسلام ومراميه وأسسه العقدية والتشريعية ولذلك فهي تمثل عنصر الثبات والوحدة والانسجام لحركة الفكر الإسلامي في مختلف قضاياه وجوانبه. ومن جهة ثانية فإن الفكر الإسلامي المعاصر قد أصبح عرضة- أكثر من أي وقت مضى - لتأثيرات قوية نافذة من الفكر الغربي الحديث، مما يوسع من احتمالات الاختلاف والتباعد، ليس بين رواده ومدارسه فحسب، ولكن التباعد حتى عن بعض ضوابط الإسلام ومقتضياته وعن صبغته وطبيعته. ومقاصد الشريعة بما تتضمنه وتبرزه من كليات وثوابت، ومن شمولية وتناسق في النظر إلى الأمور، وبما تتضمنه من مراتب وأولويات، هي خير مؤسس وموجه وموحد للفكر الإسلامي في مختلف القضايا التي يواجهها ويعالجها اليوم، سواء منها العقدية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو التربوية...، ولا نبالغ إذا قلنا إن"الفكر الإسلامي"لا يكون جديرا بهذه الصفة إلا بقدر ما يتمثل مقاصد الشريعة ويصطبغ بها، ويترجمها إلى إجابات وحلول لقضايا العصر وإشكالاته وتحدياته. وعلى هذا الأساس يمكن أي تناول أي قضية من القضايا التي تشغل الفكر المعاصر، والفكر الإسلامي خاصة،ودراستها من عدة زوايا يكون من بينها أو في مقدمتها زاوية مقاصد الإسلام ومقاصد شريعته، بحيث تتخذ معيارا وحكما. وبالله تعالى التوفيق والحمد لله رب العالمين. الرباط 14 ذي الحجة1425 24 يناير2005
[65] ـ أنظر (الفكر المقاصدي عند الإمام الغزالي، الفصل الأخير) رسالة جامعية بكلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط. [66] ـ المستصفى1/288 [67] ـ الإحكام 4/380 [68] ـ وانظر أطروحة الدكتور عمر بن صالح بن عمر(مقاصد الشريعة عند الإمام عز الدين بن عبد السلام) [69] ـ أعني بذلك كتابي(نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي) [70] ـ يقصد كتاب(الموافقات) الذي كان الشاطبي قد اختار له في البداية اسم(عنوان التعريف بأسرار التكليف)بهذه الصيغة وليس كما ورد عند الشيخ بن عاشور، دون أن يصححه أو ينبه على خطئه أحد من الناشرين ولا من المحققين. [71] ـ مقاصد الشريعة الإسلامية، بتحقيق الميساوي، ص128-129 [72] ـ راجع تفصيل ذلك في (نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي)، وخاصة الباب الرابع، الأخير. [73] ـ مقاصد الشريعة الإسلامية، مقدمة المحقق ص103 [74] ـ مقاصد الشريعة، بتحقيق الميساوي، ص127 [75] ـ مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، (تقديم الكتاب) [76] ـ الموافقات 1/ 9 طبعة دار ابن عفان1417/1997 [77] ـ الموافقات 4/144 [78] ـ قد يرى البعض أن الأدعية –على سبيل المثال- مقصودها واضح معروف،وهو ابتغاء الاستجابة وتحقيق مضمونها من الله تعالى.وهذا مسلم لاشك أنه المقصود الأول والمباشر للدعاء.لكن الدعاء يتضمن قضايا ومقاصد عقدية وتعليمية وتربوية وتشريعية. فهذا ما أدعو إلى دراسته وبيانه واستثماره.ومنذ مدة وأنا أقترح على بعض الطلبة الباحثين موضوع (فقه الدعاء ومقاصده) ولا أعلم أن أحدا قد بحثه. [79] ـفصل المقال، ص57/58
| |
|