رحلة النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه إلى الشام بين الحقيقة وقول المستشرقين
سيف النصر علي عيسى
لمّا بلغ النبيُّ صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام وقيل تسعَ سنين خرج مع عمّه أبي طالب إلى الشام حتى بلغ بُصْرى فرآه بَحيري الرَّاهبُ فعرفه بصفتِه فجاءَ وأخذَ بيده وقال هذا سيّد العالمين هذا رسول ربّ العالمين هذا َيبعثُه اللهُ رَحمة ً للعالمين
روى الحافظ أبو بكر الخرائطي من طريق يونس بن أي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال : خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش ، لما أشرفوا على الراهب- يعني : بحيرى- هبطوا فحلوا رحالهم ، فخرج إليهم الراهب ، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج ولا يلتفت إليهم. قال : فنزل وهم يحلون رحالهم ، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ذا سيد العالمين (وفي رواية البيهقي زيادة : هذا رسول رب العالمين ؛ يبعثه الله رحمة للعالمين).
فقال له أشياخ من قريش : وما علمك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً ، ولا يسجدون إلا لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه.
ثم رجع فصنع هم طعاماً ، فلما أتاهم به- وكان هو في رعية الإبل- فقال : أرسلوا إليه. فأقبل وغمامة تظله ، فلما دنا من القوم قال : انظروا إليه عليه غمامة! فلما دنا القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء شجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه ، قال : انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه.
قال : فبينما هو قائم عليهم وهو ينشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم ، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقلتوه ، فالتفت ، فإذا هو سبعة نفر من الروم قد أقبلوا ، قال : فاستقبلهم، فقال : ما جاء بكم ؟ قالوا : جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس وإنا أخبرنا خبره إلى طريقك هذه. قال : فهل خلفكم أحد هو خير منكم ؟ قالوا : لا ؛ إنما أخبرنا خبره إلى طريقك هذه. قال : أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه ؛ هل يستطيع أحد رده ؟ قالوا : لا. قال : فبايعوه وأقاموا معه عنده ، قال :
فقال الراهب : أنشدكم الله أيكم وليه ؟ قالوا : أبو طالب.
فلم يزل يناشده حتى رده ، وبعث معه أبو بكر وبلالاً(1 ) ، وزوده الراهب من الكعك والزيت.( 2)
وقد استدل على هذا الحدث جمع من المستشرقين الحاقدين بأن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم القرآن الذي جاء به من بحيرا الراهب وليس أبلغ من أن يرد عليهم واحد منهم لكنه من المنصفين " فلقد بحث الكاتب الإنكليزي توماس كارليل قضية لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ببحيرا الراهب ، وما كان لهذا اللقاء من أثر على توجيه للتفكر في قضايا الحياة والخلق . . . وقد رد كارليل في كتابه الأبطال على تلك المزاعم التي تقول إن ذلك الراهب قد لقنه العلم و انه وراء النبوة التي أنزلت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول :
« ولما شب محمد وترعرع ، صار يصحب عمه في أسفار تجارية وما أشبه ، وفي الثامنة عشر من عمره نراه فارساً مقاتلاً يتبع عمه في الحروب ، غير أن أهم أسفاره ربما كان ذاك الذي حدث قبل هذا التاريخ ببضع سنين ، رحلة إلى مشارف الشام ، إذ وجد الفتى نفسه هنالك في عالم جديد إزاء مسألة أجنبية عظيمة الأهمية جداً في نظره ، أعنى الديانة المسيحية . واني لست أدري ماذا أقول عن ذلك الراهب سرجياس (بحيرا ) الذي يزعم أن أبا طالب ومحمداً سكنا معه في الدار ، ولا ماذا عساه أن يتعلمه غلام في هذه السن الصغيرة من أي راهب ما ، فإن محمداً لم يكن يتجاوز إذ ذاك الرابعة عشر ، ولم يكن يعرف إلا لغته ، ولا شك أن كثيراً من أحوال الشام ومشاهدها لم يك في نظره إلا خليطاً مشوشاً من أشياء ينكرها ولا يفهمها . ولكن الغلام كان له عينان ثاقبتان ، ولا بد من أن يكون قد انطبع على لوح فؤاده أمور وشؤون فأقامت في ثنايا ضميره ، ولو غير مفهومة ريثما ينضجها له كر الغداة ومر العشي ، وتحلها له يد الزمان يوماً ما ، فتخرج منها أراء وعقائد ونظرات نافذات ، فلعل هذه الرحلة الشامية كانت لحمد أوائل خير كثير وفوائد جمة ) ( 3)
(1) وقع هذا في كتاب الترمذي وغيره أن بلالا كان موجودا وليس كذلك وقد أخرجه البزار في مسنده ولم يذكر بلالا أنظر زاد المعاد (1/76 ،77)
(2) صحيح السيرة للشيخ الألباني ص13
وقد حقق فيها القول الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (2/ 285) تحقيقا جيدا فراجعه
(3) توماس كارليل : الأبطال ص : 68.عن كتاب الرسول في الدراسات الاستشراقية محمد شريف الشيباني